وكالة أنباء موريتانية مستقلة

قراءة تحليليّة لـ’’تقرير اليونسكو للعلوم حتّى عام 2030‘‘ /د. خالد صلاح حنفي*

منذ عقدَيْن من الزمان، تقوم سلسلة تقارير اليونسكو عن العلوم برسم خرائط العلوم والتكنولوجيا والابتكار في جميع أنحاء العالَم ومنها البلاد العربيّة، وذلك كلّ خمس سنوات، وبشكلٍ مُنتظَم. ونظراً إلى أنّ العلوم والتكنولوجيا والابتكار لا تتطوّر في فراغ، فإنّ أحدث تقرير لليونسكو، وهو “تقرير اليونسكو للعلوم حتّى عام 2030″، الذي صدر في العام 2015، وتمّ في القاهرة الاحتفال بصدوره في حزيران (يونيو) 2016، لخَّص تطوّر العلوم عالميّاً في الفترة الممتدّة من العام 2010 حتّى العام 2030، وذلك على خلفية الاتّجاهات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والجيوسياسيّة والبيئيّة التي ساعدت على تشكيل السياسة والحَوكمة المُعاصِرة

لقد أسهم أكثر من 50 خبيراً في هذا التقرير، حيث قام كلٌّ منهم بتغطية الإقليم أو البلد الذي يتنمون إليه. ومن الجدير بالذكر أنّ التقرير الخامس يتميّز بكونه قادراً على التركيز على الاتّجاهات طويلة الأمد، بدلاً من التعمّق في التقلّبات السنوية قصيرة الأمد، والتي نادراً ما تضيف قيمة ملموسة إلى السياسات العلمية أو إلى مؤشّرات العِلم والتكنولوجيا.

وقد ضمّ هذا التقرير إحصائيات محدثة وتحليلات للظروف التي شهدتها كلّ دولة في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، رابطاً إيّاها بالوضع الاقتصادي، مع تحليل مؤشّرات النموّ أو التراجع في البحث العلمي في كلّ بلد. فرَصَد التقرير كذلك الاستراتيجيّات الجديدة على المستوى الوطني والإقليمي، ومنها الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار، المُصادَق عليها من طرف وزراء التعليم العالي والبحث العلمي العرب في آذار (مارس) 2014 في الرياض.

ووفقاً للتقرير، باتت معظم البلدان، بصرف النَّظر عن مستوى دخلها، تُراهن على البحوث والابتكار لتحقيق نموٍّ اقتصادي مُستدام والنهوض بالتنمية الوطنية. ويظهِر تقرير اليونسكو عن العلوم أنّ البحوث باتت تمثِّل عاملاً مسرّعاً للتنمية الاقتصادية، وأداةً بالغة الأهمّية في بناء مجتمعات أكثر استدامةً وأكثر احتراماً لكوكب الأرض، في آن واحد.

حال العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي

كشف “تقرير اليونسكو للعلوم حتّى عام 2030” عن تراجعٍ عامّ للعلوم على مستوى الدُّول العربية، وتعود أهمّية ذلك التقرير إلى أنّه أوّل تقرير يرصد حال العلوم في الوطن العربي في أعقاب ثورات الربيع العربي، وما شهدته المنطقة من أزمات وصراعات وحروب، وتغيّرات غيّرت وجه الوطن العربي ومعالمه.

فقد شهدت الأعوام الخمسة الماضية تغييرات جيوسياسية هائلة كانت لها تداعيات ملموسة على العِلم والتكنولوجيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر: الربيع العربي عام 2011 ؛ والاتّفاق النووي مع إيران عام 2015؛ وإنشاء رابطة دُول جنوب شرق آسيا عام 2015، فضلاً عن تراجع أسعار النفط الخام والتغيّرات الاقتصادية والسياسية على مستوى دُول العالَم.

وكانت لهذه التغيّرات آثار وتداعيات مؤثِّرة في أوضاع العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي. ففي مصر، وعلى سبيل المثال، حدث تغيّر جذري في سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار منذ بداية أحداث الربيع العربي، فبدأت الحكومات الجديدة المتعاقبة تسعى لتحقيق اقتصاد المعرفة والنَّظر إليه على أنّه أفضل السبل للحصول على قاطرة نموّ فعّال. فنصَّ دستور عام 2014 على قيام الدّولة بتخصيص 1 % من إجمالي النّاتج المحلّي على البحث والتطوير R&D على أن تكفل الدَّولة للمواطنين حرّية البحث العلمي وتشجّع مؤسّساتها العلمية كوسيلة نحو تحقيق السيادة الوطنية وبناء اقتصاد المعرفة الذي يدعم الباحثين والمُخترعين.

كما جلب الربيع العربي في تونس المزيد من الحرّية الأكاديمية، وسهَّل العلاقات الدّولية. لكن على الجانب الآخر تُواجه دُول عربية مثل ليبيا واليمن حركات تمرّد قتالية، ممّا يحدّ من الأمل في الإحياء السريع للعلوم والتكنولوجيا. كما تقع سوريا في خضمّ حرب أهلية.

هذا، وقدَّمت الحدود السياسية التي يسهل اختراقها، والناتجة عن الاضطّرابات السياسية في الربيع العربي، الفرصة لجماعات إرهابية انتهازية للازدهار. حيث لا تشكِّل هذه الميليشيات، الشديدة العنف، تهديداً للاستقرار السياسي فقط، ولكنّها تقوِّض أيضاً التطلّعات الوطنية نحو اقتصاد المعرفة، لأنّها بطبيعتها مُعادية للمعرفة بشكل عامّ، وضدّ تعليم الفتيات والنساء على وجه الخصوص. وتتمدَّد مخالب هذا الظلامية الآن جنوباً حتّى نيجيريا وكينيا.

كما أصبحت الطّاقة أحد الشواغل الرئيسة للحكومات في كلّ مكان، بما في ذلك الاقتصادات المُعتمِدة على البترول، مثل الجزائر والمملكة العربية السعودية اللتَيْن تستثمران الآن في مجال الطّاقة الشمسية لتنويع مصادر الطّاقة لديهما. وقد سعى عدد من الدّول العربية إلى تطوير مُدن ذكية مستقبلية فائقة الاتّصالات والمُدن الخضراء التي تستخدم أحدث التقنيات لتحسين الكفاءة في استخدام المياه والطّاقة والبناء والنقل… إلخ. ومن هذه الدّول المغرب والإمارات العربية المتّحدة.

وأثنى التقرير على إنشاء عددٍ من البلدان العربية – من بينها المغرب ومصر ولبنان – مراصدَ لقياس مؤشّرات النموّ والابتكار، وحثَّ باقي الدّول على أن تحذو الحذو ذاته، وأن تربط هذه المراصد المحلّية بعضها ببعض.

ولم يُغفل التقرير مساهمة العنصر النسوي في قاطرة البحث العلمي العربي. فنسبة الباحثات في الدّول العربية تبلغ 37%، وهي تزيد على النسبة المسجَّلة في الاتّحاد الأوروبي وهي 33%.

مؤشّرات تراجُع العلوم في البلاد العربيّة

ورصد التقرير مؤشّرات لتراجع العلوم في البلاد العربية، والتي من أبرزها عزوف الطلّاب العرب عن دراسة العلوم الأساسية والتطبيقية، وتوجُّه ما بين 60 و70 في المئة من الطلّاب إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن أنّ تدريس العلوم في المدارس والجامعات العربية لا يتمّ بطريقة ممتعة وقائمة على التساؤل والبحث والتقصّي والاكتشاف. وبالمجمل، فإنّ جودة تدريس العلوم ليست على المستوى المنشود لأنّها لا تُعَد من الأولويّات، فضلاً عن عدم وجود تركيزٍ كافٍ على الأولويّات والاستراتيجيات البحثية، وعدم كفاية التمويل لتحقيق الأهداف البحثية، وقلّة الوعي بأهمّية البحث العلمي الجيّد، فضلاً عن تشبيكٍ غير كافٍ بين الباحثين، وجهود تعاونية محدودة بين دُول المنطقة، وهجرة كثيفة للعقول.

وعلى الرّغم من أنّ أغلب الدّول العربية لها استراتيجيّاتها الخاصّة في تطوير العلوم والتكنولوجيا، إلّا أنّها تظلّ حبيسة الأدراج والخطابات الإنشائية في افتتاحيات المؤتمرات العلمية.

وهذا أدّى بدوره إلى هجرة الكفاءات العلمية والبحثية من الوطن العربي؛ إذ رصد التقرير ارتفاعاً ملحوظًا لمعدّلات هجرة العقول خلال السنوات الأخيرة في العالَم العربي، كما أكَّد معدّوه أنّهم “وجدوا صعوبة في جمع بعض البيانات؛ نظراً لتحفّظ الكثير من الدّول عليها، ومن بينها الأعداد الفعلية للعقول المُهاجرة”.

أسباب تراجع العلوم في الوطن العربي

أوضح التقرير أنّ من أبرز أسباب تراجع العلوم في الوطن العربي، تأجُّج الصراعات والثورات خلال الأعوام القليلة المنصرمة، والضغوط المتصاعدة على الدّول العربية، وبخاصّة تلك المتعلّقة بالأمن ومكافحة الإرهاب، ما حفَّز حكومات هذه الدّول على زيادة الإنفاق العسكري والتسليح، بدلاً من إنفاقها على البحوث والتنمية. وبالأرقام، أشار التقرير إلى هذه الزيادة التي بلغت حوالي 4% منذ عام 2013، وهو ما يُقدَّر بنحو 150 مليار دولار أميركي؛ ففي المملكة العربية السعودية وحدها زاد بمعدل 14%، أي ما يقارب 67 مليار دولار، متخطّية بذلك المملكة المتّحدة واليابان وفرنسا، لتصبح رابع أعلى دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتّحدة والصين وروسيا.

ورصد التقرير توجُّه بعض الدُّول العربية إلى تحديد نسبة واضحة للإنفاق الحكومي على البحث العلمي في دستورها، وهي ظاهرة مهمّة شهدتها مصر والعراق وليبيا وغيرها. لكن على الرّغم من تعهّد الحكومات برفع حصّة البحث العلمي إلى 1% من الناتج المحلّي الإجمالي منذ 25 عاماً، إلّا أنّ أياً من الدّول العربيّة لم تلتزم بالوصول إلى هذا الهدف، وفق ما أشار التقرير.

توجّهات الحلّ وتحسين الوضع الرّاهن للعلوم في الوطن العربي

هناك ضرورة ملحّة لرصد الأدوات التنفيذية اللّازمة لتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية للعلوم في البلاد العربية، من دعمٍ مالي وإجرائي، لتطبيقها على أرض الواقع، والإفادة في ذلك من خبرات الدّول المختلفة. فقد شهدت إيران حالة ازدهار اقتصادي تزامنت مع قرار الدّولة في التحوّل إلى اقتصاد المعرفة متمثِّلاً في “رؤية 2025” التي تمّ إقرارها في العام 2005، وهي استراتيجية ترسم الطريق لجعل إيران الاقتصاد الأقوى في المنطقة، والثاني عشر على مستوى العالَم. ورصدت الحكومة لتحقيق ذلك مبلغ 3.7 تريليونات دولار أميركي، يوجَّه الجزء الأكبر منه نحو دعم الاستثمار في البحث والتنمية والشركات المرتكزة على المعرفة وتسويق البحوث العلمية.

كما يجب تجسير الفجوة القائمة بين أصحاب القرار والباحثين، وكذلك بين المجتمع والقطاع الخاص، من خلال تطوير آلياتٍ للتواصل بينهم، والاعتماد على نماذج ناجحة من العلماء الشباب، فضلاً عن الحاجة إلى بناء الكتلة الحرجة من العمالة الفنّية اللّازمة والارتقاء بالتعليم، وتوفير المنح للباحثين والموهوبين للدراسة في الجامعات والمراكز البحثية المتقدّمة، وكذلك سدّ الفجوة في ما يخصّ الاستثمار في التعليم والبحوث، وضرورة سعي الدّول لجذب المواهب في توجيه الاقتصاد المعرفي ممّا يُحسِّن مواقعها التنافسية على المستوى العالَمي.

وأوصى التقرير بإشراك القطاع الخاصّ في العملية البحثية، وأورَد أمثلةً ناجحة لذلك، حيث نجح قطاع الاتّصالات في المغرب في إقناع شركات الاتّصالات المغربية بالتنازل عن 0.25% من عائداتها في تمويل نحو 80% من إجمالي المشروعات البحثية العامّة في مجال الاتّصالات.

*مدرّس أصول التربية

كلّية التربية – جامعة الإسكندرية

افق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.