وكالة أنباء موريتانية مستقلة

رحلة عبد الحكيم الحوثي إلى باب المندب

في صيف 82 توقفت السفينة اليونانية التي حملت المقاتلين الفلسطينيين من بيروت في طريقها إلى عدن، للتزود بالمؤن في ميناء الحديدة، لم تكن الحديدة ضمن المحطات المتفق عليها في خط سير تلك الرحلة الغريبة، كنت ضمن ذلك الفوج المكون من ألف مقاتل فلسطيني رفقة الراحل غالب هلسا، كنا قد عبرنا قناة السويس نحو البحر الأحمر في طريقنا إلى عدن محطتنا النهائية. لم نتزود في جدة كما كان مقرراً، وكان الماء العذب على وشك النفاد عندما توقفت السفينة بحمولتها الغريبة خارج ميناء الحديدة نهاية آب من ذلك الصيف، فجأة اندفعت من الميناء الهادئ عشرات القوارب الصغيرة، قوارب صيد فقيرة خرجت من الضباب نحو السفينة محملة بالخبز والعنب، كان هناك خبز وعنب وماء يصعد من تلك القوارب نحو ظهر السفينة وهتافات ووجوه منفعلة وأعلام وأيدي مرفوعة بحماسة على مرأى من البارجة الأمريكية التي كانت ترافقنا عن بعد، وترسل بين وقت وآخر حوامات لتطوف حول سفينتنا، كانت التظاهرة خارج الاتفاق تماماً، وبدا أن الفوضى التي أحدثتها قد أربكت حراسنا الأمريكيين فأرسلوا حواماتهم من جديد.
تذكرت مظاهرة القوارب العفوية تلك وأنا استمع لأخبار اجتياح الحوثيين للحديدة وتوزعهم بأزياء عسكرية في مداخلها ومفارق طرقاتها واستيلائهم على المطار والميناء، الميناء الذي شهد تلك اللحظات غير المدبرة لوصول سفينة يونانية ميناء يمنيا وعلى ظهرها مقاتلين من منظمة التحرير الفلسطينية خرجوا من حصار بيروت، بدت تلك المكونات، في حينه، خارجة من ظلال ميثولوجيا متوسطية على مياه البحر الأحمر، دون قصد لمعت تلك الوجوه في ذاكرتي ولمع الخبز ولمع العنب، وأنا أتتبع صور الحوثيين وضيقهم الواضح من الملابس العسكرية الفضفاضة التي تسلموها من مخازن الجيش نفسه، ملابس جديدة وأخرى مستخدمة من قبل جنود لم يعودوا هنا، رغم أن أصواتهم تصل خافتة من تعز، المحطة الرئيسية القادمة للحوثيين وبوابة الجنوب.
لم يتوقف الحوثيون، تماماً مثل داعش، منذ شهور وهم يتجاوزون الاتفاقيات والمدن والقرى والشعاب ويلتهمون المعسكرات والمطارات دون أن يلتقطوا أنفاسهم، كما لو بأمر الهي، مثل أعجوبة يطوون الأرض باتجاه المحيط حيث بوابة باب المندب، هناك بالضبط تريد إيران أن يقف عبد الحكيم الحوثي، وهو يضع اليمن في أكياسه، الجيش والدولة والقبائل والجبال والرجال بأحزمتهم العريضة وخناجرهم المعقوفة وزينتهم كاملة، وهناك أمام المنارة الهائلة التي ترشد العابرين في المضيق، سينصب خيمته ويرفع رايته بعد أن طوى راية الإخوان المسلمين وحزبهم “حزب التجمع اليمني للإصلاح” منذ مواجهات عمران.
ما يحدث في اليمن يتجاوز التحليل ويذهب إلى المجاز أو الاستعارة، الأشياء هناك تنحو منحى المجاز ولا تبدو كنتائج قابلة للقياس، ليس ثمة قراءة حقيقية وعميقة للتحولات “المدهشة” التي تتدفق في مدن اليمن وجغرافيته المربكة، الفوضى التي تسببت فيها أخطاء الإخوان المسلمين وسوء التقدير الذي يتمتعون به ويكررونه في كل مكان تقريبا مثل جينات راسخة في سياستهم، الخراب الذي أنجزه علي صالح على مدار عقود طويلة، المؤسسة العسكرية المقسمة بين الولاءات المتضاربة، الشرخ الطائفي الذي حفرته إيران ودربته وسلحته، الطبيعة نفسها ونزعات الانفصال المتوفرة في السياسة ولدى النخب تحديداً، الجروح العميقة التي لم تلتئم بعد اثر ضم الجنوب للشمال، الجنوب الذي يشعر بأن الوحدة هزمته فيما الانفصال سيفككه، كل هذا وأكثر مما لا أعرف ويعرفه اليمنيون يظهر الآن في متوالية سريعة هناك في اقصى جنوب الجزيرة العربية.
بعد بحث طويل وتقليب مشوش للقنوات الفضائية، بعد الإصغاء المضجر لانتقائية المحرر ولمحللين وخطباء وجنرالات متقاعدين أعيد إحياؤهم من جديد وتم تكليفهم بثني الحقائق، وجدت نفسي معتمداً على نحو ما على مكابدات جمال جبران ويومياته الغريبة في صنعاء اليمن السعيد.
في صنعاء أتتبع جمال جبران، أجلس قبالته في العتمة ننتظر عودة الكهرباء ونصغي معا لصليات الرشاشات الثقيلة والمتوسطة التي تهز المدينة، خارج النافذة حيث تدفق الحوثيون بأغبرتهم وهتافاتهم “الموت لأمريكا”، لا أعرف بالضبط لماذا يرغب الحوثيون بموت أمريكا، وما هي علاقة اجتياح صنعاء بكل هذا.
جمال جبران، وهو صديق لم ألتقه في العالم الواقعي ولم أتبادل معه رسائل في العالم الافتراضي الذي التقينا في فضائه، هو نافذتي في صنعاء الآن وهو المصدر الذي يزودني بأخبارها، بتلك اللهجة المنزاحة قليلاً نحو السخرية وتداخل لهجات وذائقة القاهرة وبيروت، السخرية خبر حقيقي هنا، بالتفاصيل الصغيرة التي يوردها دون ادعاء أو مقاصد سيئة في ثنايا اللقطة، الجيد في كل هذا أنه لا يعرف اعتمادي عليه.
من نافذته يمكن مشاهدة سماء صنعاء وهي تشتعل بالألعاب النارية التي أطلقتها جماعة عبد الحكيم الحوثي احتفالاً بيوم الغدير، حيث تولى علي بن ابي طالب ولاية المسلمين، الألعاب ستضيئ على ميدان التحرير في مركز المدينة، هناك فجر انتحاري من القاعدة، كان يجر طفلين الى جانبه للتمويه ربما، فجر نفسه في الحاجز والحوثيين والمارة والمدينة في اليوم السابق، أكثر من خمسين قتيلا كانوا على أرض الميدان بعد انقشاع الدخان بما فيهم الطفلين.
أتأمل صورة لعلي صالح في حديقة منزله عرضها على موقعه بطقم كاروهات وبيديه بندقية صيد، أقرأ السخرية العميقة التي وقع بها بعض يومياته مستعيناً بمحمود درويش “يوميات الحزن الحوثي”، أصغي للشاب ابن الثامنة عشرة القادم من ذمار والذي التحق بالحوثيين، رغم أنه ليس حوثياً، منذ خمس سنوات، أي منذ طفولته، والذي يبدو الأمر بالنسبة إليه مصدر رزق يوفر شيئاً من الإثارة، أغرق في السؤال حول ولع الحوثيين بنهب غرف النوم والملابس الداخلية، أراقب زيادة الأسعار وجنونها وشحة المواد التموينية وانقطاع الكهرباء، وسعر الطماطم والخبز والحليب وأحوال قطيع القطط الذي يعيله في بيته وتبدل الولاءات لدى النخب السياسية، في نفس الوقت الذي اتتبع فيه زحف رجال عبد الحكيم الحوثي من عمران إلى حجة إلى اجتياح صنعاء، ثم التوجه من صنعاء إلى مأرب فالجوف فرداع فالحديدة …
خارج البيت وخارج السخرية وخارج الخبر اليومي، تواصل ايران مد أذرعها التي خرجت تماماً عن ديمغرافيا الطائفة لتتحول إلى متواليات من “الباسيج” بمواصفات محلية في لبنان وسوريا إلى العراق والآن في جنوب الجزيرة العربية، وصولاً إلى باب المندب، ومن هناك من باب المندب حين يقف عبد الحكيم الحوثي أمام المنارة الهائلة التي تضيء المضيق في الليل سيتنهد المرشد في طهران ويسترخي المفاوض الإيراني داخل الملف النووي، وهو يشير إلى أملاك الإمبراطورية وجنودها.

Print Friendly, PDF & Email

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي