وكالة أنباء موريتانية مستقلة

هل ستستمرّ اتفاقية سايكس- بيكو؟ /محمد سيّد رصاص

جرت محاولات عدّة لرسم خرائط جديدة تتجاوز سايكس- بيكو، إلّا أنها جميعها باءت بالفشل، وأثبتت دول سايكس- بيكو قوّتها أمام الهزّات، في لبنان 1975-1990 ، وفي العراق 2003- 2015. ففي هاتين التجربتين كانت قوى التقسيم الداخليّة والخارجيّة أضعف من القوى الداخليّة والإقليميّة والدوليّة التي تؤيّد بقاء الخرائط القائمة.
كان دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1914 سبباً في حسم التردّد الطويل لبريطانيا في تقسيم الممتلكات العثمانية. إذ كانت بريطانيا قد وقفت في وجه نابليون بونابرت في أثناء حملته على مصر 1798-1801، ثمّ ضدّ محمد علي باشا والقياصرة الروس خلال القرن التاسع عشر. وفي آذار/ مارس 1915، عُقِدت اتفاقية ثلاثيّة: بريطانية – فرنسية – روسية، تمّت فيها موافقة لندن وباريس على أن يأخذ القيصر الروسي- في حال انتصر الحلفاء في الحرب- إسطنبول والمضائق، وأن يتقاسم البريطانيون والفرنسيون الممتلكات العثمانية الآسيوية. وعندما عُقِدت اتفاقيّة ”سايكس – بيكو“ في16 أيار/ مايو من العام 1916 بين لندن وباريس، كان وزير الخارجية الروسي سرج سازانوف طرفها الثالث. وبدفعٍ من لندن، نشبت ”الثورة العربية الكبرى“ في 10 حزيران/ يونيو من العام 1916 من أجل تحقيق ما اتفق عليه الإنكليز مع باريس وبتروغراد، ولكن من دون أن يعرف العرب المشتركون في تلك ”الثورة“ بتلك الاتفاقات.
ولقد ترافقت التحرّكات البريطانية نحو الروس والفرنسيين مع تحرّكات موازية في الجزيرة العربية، ولاسيّما ”مراسلات حسين- مكماهون“ (14تموز/ يوليو 1915-10آذار/ مارس 1916)، التي مَنحَت بريطانيا بموجبها وعوداً لشريف مكّة من أجل إقامة ”الدولة العربيّة“. وكذلك المعاهدة مع حاكم الكويت (في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1914)، والتي تُقرّ فيها لندن باستقلال الكويت تحت الحماية البريطانية، في حال ساعد البريطانيّين في السيطرة على البصرة. ناهيك بالمعاهدة التي تمّت مع الحكّام الأدارسة في 30 نيسان/ إبريل من العام 1915، والتي تقرّ باستقلالهم في عسير، والمعاهدة التي تمّت مع جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في 26 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1915، والتي تقرّ فيها لندن باستقلاله من ضمن الأراضي الواقعة تحت سيطرته في نجد وحائل.
ومع الهزيمة العسكرية للعثمانيّين في اتفاقية الاستسلام الكامل في جزيرة مودروس يوم 30 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1918، باشرت لندن وباريس في تطبيق مضمون اتفاقيّة ”سايكس- بيكو“: كان القيصر الروسي قد سقط بثورة شباط / فبراير 1917، ثمّ أسقط البلاشفة الروس حكومة كرنسكي التي واصلت الحرب مع لندن وباريس في ثورة أكتوبر 1917، وخرجوا من الحرب عبر معاهدة ”بريست- ليتوفسك“ المنفردة مع الألمان في آذار/ مارس 1918، ما جعل ”سايكس- بيكو“ بريطانية – فرنسية محضة.
شمل صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين في العام 1920 ضفّتَيْ نهر الأردن. لذا كان إنشاء إمارة شرق الأردن في آذار/ مارس 1921 المدخل الأول للتوكيد على حدود ”الوطن القومي لليهود“ المُعطى في ”وعد بلفور“ (2 تشرين الثاني 1917)، والذي بدا بوضوح أنه تطبيق لـ ”سايكس- بيكو“. حيث نصّ الاتفاق على ”أن تكون هناك إدارة دولية في المنطقة السمراء: فلسطين، بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثّلي شريف مكّة“. أما المدخل الثاني للتأكيد على حدود ”الوطن القومي لليهود“ فتجسّد في قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة يوم29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين. كما تجسّد المدخل الثالث بما قاله ملك الأردن عبد الله يوم 26 نيسان/ إبريل 1950 بعد ضمّ الضفّة الغربية: ”كلمة الأردن تعني الضفّة الغربية والشرقية معاً“، وهو ما أكّده القرار 242 لمجلس الأمن يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، قبل أن يقوم حفيده الملك حسين يوم 31 تموز / يوليو 1988 بفكّ الارتباط بين الضفّتين الغربية والشرقية، محدّداً حدود ”فلسطين“ في الضفّة الغربية ومعها قطاع غزّة الذي لا يزال، وفق منطوق القرار 242 من ضمن الأراضي المصرية المحتلَّة في حرب حزيران 1967 ما دامت القاهرة لم تقم حتى الآن بخطوة مماثلة لخطوة 31 تموز/ يوليو 1988 الأردنية. ويبدو أن شارون في رئاسته الوزارة الإسرائيلية بين7 آذار/ مارس 2001 و4 كانون الثاني/ يناير 2006، وإقامته الجدار العازل، قد رسم حدود دولة إسرائيل ودولة فلسطين، بالتخلّي عن ”إسرائيل الكبرى“.
وفي 23 آب/ أغسطس 1921، قامت لندن بإنشاء الدولة العراقية بجغرافيّتها الحالية مع التباسات تمّت إزالتها لاحقاً عبر ضمّ عربستان لإيران، ثمّ في 6 آذار/ مارس 1975 مع ”اتفاقية الجزائر“ بين شاه إيران وصدّام حسين والتي نصّت على تقسيم شطّ العرب بين البلدين. وفي 30 آب/ أغسطس من العام 1920، قام المفوّض السامي الفرنسي بإعلان قيام دولة لبنان الكبير، بحسب الحدود الحالية القائمة للدولة اللبنانية. وظلّت سوريا موضع أخذ وردّ من الناحية الجغرافية منذ العام 1920: كانت حدود تفويض عصبة الأمم لباريس بالانتداب على سورية تتضمّن الخطّ الواصل من طرسوس حتّى جزيرة ابن عمر على الحدود الثلاثية الحالية القائمة عند دجلة بين سوريا وتركيا والعراق. وهو ما تخلّت عنه فرنسا لتركيا في معاهدة لوزان في العام 1923، قبل أن تتخلّى أيضاً عن لواء إسكندرون وتعطيه لأنقرة بين عامَيْ 1937 و 1939، وذلك من أجل ضمان حيادها، ولكي لا تكرّر ما فعله العثمانيّون في العام 1914 مع تجمّع غيوم الحرب العالمية الثانية. وعندما وقّعت الدولة السورية على ميثاق الأمم المتّحدة، كانت عضويّتها مرفوقة بخريطة تضمّ مزارع شبعا، من دون الاعتراف بضمّ لواء إسكندرون لتركيا.
بالتوازي، كان نشوء المملكة العربية السعودية في 18 أيلول/ سبتمبر 1932 بمثابة تحديد للنطاق الجنوبي لـ”سايكس- بيكو“، وذلك مع ضمّ الحجاز والأحساء وعسير، وإضافتها إلى ما كان في معاهدة العام 1915 وتجاوزه. ويمكن اعتبار ”الكويت“ بالتالي، من القرارات الموازية لـ”سايكس- بيكو“. وشأن الملك عبد العزيز آل سعود، استطاع كمال أتاتورك أيضاً، في ”معاهدة لوزان“ (1923) نيل الاعتراف الدولي القانوني بما تمّ فرضه من وقائع جديدة على الأرض، والتي تجاوزت المرسوم والمُتَّفق عليه في آذار 1915 / مارس 1916 بين البريطانيّين والفرنسيّين والروس.
هكذا، جرت محاولات عديدة لرسم خرائط جديدة تتجاوز”سايكس- بيكو“، إلّا أنّها فشلت جميعها: عندما كاد البرلمان السوري يصل إلى حافة التصويت بالموافقة على الوحدة مع العراق، قام العقيد أديب الشيشكلي بانقلابٍ في 19 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1949، مدعوماً من القاهرة والرياض وباريس. أما الوحدة السورية – المصرية (22 شباط/ فبراير 1958) فقد فشلت وانتهت مع انقلاب الانفصال يوم 28 أيلول/ سبتمبر 1961، بعدما نجحت في تغيير خرائط سايكس – بيكو لثلاث سنوات وسبعة أشهر وستّة أيام. وكانت ”الكويت“ سبباً رئيساً في سقوط عبد الكريم قاسم وصدّام حسين عندما حاولا ضمّها للعراق في الأعوام 1961 و 1990-1991. وعندما حاول صدّام، خلال الحرب العراقية- الإيرانية، تجاوز الخرائط القائمة، متطلّعاً إلى عربستان، كانت الوقائع الدولية تفرض عليه الارتطام بجدار الحدود القائمة.
لقد هدفت لعبة ستالين، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال تأييد خرائط جديدة إيرانية عبر تأسيس ”جمهورية مهاباد“ و”جمهورية أذربيجان“، إلى مساومة الغرب للتنازل عن أوروبا الشرقية والوسطى لموسكو. وعندما حصل ذلك، رفع الزعيم السوفياتي يده فانهارت الجمهوريّتان، وظلّت إيران تحت خيمة خريطتها القائمة. في هذا الإطار، كان من الواضح، جغرافياً، أن وحدة العام 1990 اليمنيّة، وانفصال جنوب السودان في العام 2011، هما من خارج سياق ”سايكس- بيكو“.
لقد أثبتت بنى دول”سايكس- بيكو“ قوّتها أمام الهزّات في لبنان 1975-1990، وفي العراق 2003-2015. ففي هاتين التجربتَيْن، كانت قوى التقسيم الداخلية والخارجية أضعف من القوى الداخلية والإقليمية والدولية التي تؤيّد بقاء الخرائط القائمة. ولقد فهم هذا الأمر كلٌّ من بشير الجميّل وسمير جعجع ومسعود برزاني ولو بصعوبة بالغة في الحالات الثلاث. وكان الدرس الأخير للبرزاني، بعد موصل 10 حزيران/ يونيو 2014، وسيطرته على كركوك التي أسماها ”قدس الأكراد“، ومن ثمّ طرحه لمشروع ”استفتاء على حقّ تقرير المصير لأكراد العراق“، كان الدرس الأخير كافياً لكي تقتنع قوى دولية وإقليمية عديدة بأن خريطة العام 1921 العراقية لا يمكن تجاوزها، وإن كان مسموحاً تلوينها بديكور فيدرالي داخلي.
يبدو أن الأمر هنا لا يقتصر على خوف القوى الكبرى من أن تولّد ”الخرائط الجديدة“ أنهاراً من الدماء في الشرق الأوسط تفوق ما جرى مع تفكّك يوغسلافيا. إذ إن تشغيل محرّكات الصراعات بعوامل الدين والطائفة والقومية، واستدعاء الموروث التاريخي، من شانه أن يولّد اضطراباً عالمياً كبيراً لا يمكن ضبطه، وذلك كما جرى في بلقان ما قبل العام 1914، حيث شكّلت الصراعات عود ثقاب الحرب العالمية الأولى. الأرجح أن الاتجاه العالمي لا يميل إلى خرائط جديدة، لأن تغيير الخرائط سيؤول إلى تغييرٍ في موازين الأقاليم تغييراً قد يقود إلى هيمنة طهران وأنقرة على الدول الجديدة التي ستكون كلّها من نتاج تقسيم الدول الأربع: العراق وسوريا ولبنان والأردن. فهذا ما من شأنه أيضاً أن يهدّد إسرائيل، ولا يصبّ في مصلحة مصر، وسوف يؤدّي على الأرجح إلى تقسيم المملكة العربية السعودية. كما أن ذلك سيقود في الغالب إلى الوضعية التي كانت قائمة في القرن السادس عشر بين العثمانيّين والصفويّين، بوصفهما القوّتين الإقليميّتين العظمتين آنذاك. فعندما انتصر العثمانيّون على الصفويّين في ”معركة جالديران“ في العام 1514، سقط كلٌّ من دمشق والقاهرة ومكّة وبغداد، ووصل العثمانيّون إلى فيينا في العام 1529، وأصبح السلطان العثماني لوقت طويل فزّاعة الغرب الأوروبي والروس أيضاً. وهذا ما لا تريده واشنطن ولا لندن ولا باريس ولا موسكو.
من هنا يمكن القول: إن ”لا خرائط جديدة“ بفعل استمرار”سايكس- بيكو“.

*كاتب وباحث من سوريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.