وكالة أنباء موريتانية مستقلة

العلاقة بين المُواطَنَة والتنمية/ د. خالد صلاح حنفي محمود*

تُعدّ المُواطَنَة الصالحة من أسمى الأهداف العليا للمجتمعات الإنسانيّة، على اختلاف مدارسها الفكريّة ومنابعها الفلسفيّة، لما تعكسه من آثار إيجابيّة على أهداف المجتمعات كلّها. فالمُواطَنَة من القضايا التي تفرض نفسها بقوّة عند معالجة أيّ بُعدٍ من أبعاد التنمية الإنسانيّة ومشروعات الإصلاح والتطوير الشاملة بصفة عامّة؛ ومن ثمّ فإنّ هناك نوعاً من الارتباط بين المُواطَنَة والتنمية، وهو ما سنحاول أن نعرض، محلّلين أبعاد تلك العلاقة وأهمّيتها.

تعني المُواطَنَة بمفهومها الواسع الصلة بين الفرد والدولة التي يقيم فيها بشكل ثابت، ويرتبط بها جغرافياً وتاريخياً وثقافياً. ويُعَدّ ازدياد الشعور بالمُواطَنَة من التوجّهات المدنية الأساسية التي من أهمّ مؤشّراتها الموقف من احترام القانون والنظام العامّ، والموقف من ضمان الحرّيات الفردية واحترام حقوق الإنسان، والتسامح وقبول الآخر، وحرّية التعبير، وغيرها من المؤشّرات التي تمثّل القيَم الأساسية للمواطَنة مهما اختلفت المنطلقات الفكرية والفلسفية لهذا المجتمع أو ذاك (أبو حشيش، “دَور كلّيات التربية في تنمية قيَم المُواطَنَة لدى الطلبة المعلّمين بمحافظة غزّة”، مجلّة جامعة الأقصى، 14- 1، 2010).

بدأ مفهوم المُواطَنَة باعتباره نوعاً من الانتماء للمكان حيث عاش الإنسان في مكان معيّن لا يستطيع فراقه وينتمي إليه ثمّ أُضيف بُعد الجماعة إلى بُعد المكان، وأصبح الانتماء موجَّهاً إلى المكان والجماعة معاً. وحينما تطوّرت الجماعة وكبرت، فقدت تجانسها واقتصرت المُواطَنَة على بعض من دون الآخر. ثمّ تطوّر الأمر إلى مرحلة جديدة، حيث شكَّل الدّين مرجعيّة للمواطَنة المرتبطة بالدولة القومية والمعبِّرة عن الأمّة التي شكَّلت مرجعية للدولة والمُواطَنَة (الشرقاوي، موسى، “وعي طلّاب الجامعة ببعض قيَم المُواطَنَة:دراسة ميدانيّة”، مجلّة دراسات في التعليم الجامعي، العدد – 9 – 2005).

ويعني مبدأ المُواطَنَة التزاماً سياسياً، ويتمثّل في التوافق المجتمعي على عقدٍ اجتماعي يتمّ بمقتضاه اعتبار المُواطَنَة مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة إلى كلّ مَن يحمل جنسية الدولة، من دون تمييز ديني أو عرقي أو جنسي، ومن ثمّ تجسيد هذا التوافق في الدستور (النقشبندي، بارعة، “مبدأ المُواطَنَة :مدخل نظري لدراسة الجندر”، مجلّة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلّد 30 ، العدد -2- 2003).

وقد صنَّف السويدي (2001) المُواطَنَة في أربع صور هي: المُواطَنَة المُطلقَة، وفيها يجمع المواطن بين الدَّور الإيجابي والسلبي باتجاه المجتمع، والمُواطَنَة الإيجابية، والتي يشعر فيها الفرد بقوّة انتمائه الوطني وواجبه بالقيام بدَور إيجابي لمواجَهة السلبيات، والمُواطَنَة السلبية، وهي شعور الفرد بانتمائه للوطن ويتوقّف عند حدود النقد السلبي ولا يقدِّم أي عمل إيجابي لوطنه، والمُواطَنَة الزائفة وفيها يحمل الفرد شعارات جوفاء لا تعكس الواقع ويمتاز بعدم الإحساس باعتزازه بالوطن.

وتبحث معظم الدول في كيفية إعداد أفرادها إعداداً سليماً على نحوٍ يجعل منهم مواطنين قادرين على تحمل المسؤوليّات، والمُشارَكة في تطوير مجتمعهم في ظلّ تلك التغيرات، الأمر الذي يتطلّب نوعاً من التربية يفي بتلك النوعية من المواطنين، ولهذا أصبحت التربية من أجل المُواطَنَة من أكثر الموضوعات جدلاً في مجال التربية المُعاصرة، وذلك لمواجهة الإحساس بالاغتراب وعدم الإحساس بالهوية والانتماء وضعف المشاركة السياسية (فرج، هانئ عبد الستّار، “التربية والمُواطَنَة: دراسة تحليلية”، مستقبل التربية العربية، العدد -35-، 2004).

حين يسعى المواطن في أيّ مجتمع نحو تحقيق منجزات ما، فإنّ ذلك سيدخل من ضمن دائرة المُواطَنَة الحقّة، سواء من جانب الحقوق أم الواجبات، والتي حتماً ستأتي بثمارها في تحقيق الغرض المنشود وفق الاتّجاه الذي تسلكه الدولة من ضمن المصلحة العامّة. من هنا نطرح الفرض الذي يُمكن أن يعبّر عن نمط العلاقة الجدلية بين دَور المُواطَنَة ومدى فاعليّتها في ترسيخ معايير التنمية المُستدامة واتّجاهاتها، لأنّ هذا الاتجّاه يُعَدّ من أولويّات الخطط التنموية التي تدخل من ضمن طروحات مستقبلية تبحث في مشكلات التنمية وجوانبها الأساسية.

المُواطَنَة ليست صفة شكليّة يحملها المواطن، بل إنّها ارتباطٌ صميمي وحميمي بجذور الانتماء والولاء للأرض المعطاء، فضلاً عن الروابط الاجتماعية التي يجتمع عليها المجتمع للقيام بمتطلّبات التنمية واستدامتها؛ على أنّ تحقيق مثل هذا الدَّور لا ينفصل عن متطلّبات التنمية السياسية، وهي تضع إمكاناتها كلّها نحو تحقيق واجبات الدولة ورعايتها للأمن والاستقرار وفق الإرادة الذاتية (تقرير التنمية البشرية، 2002).

إنّ قيام الدولة الحديثة على مبدأ المُواطَنَة هو أكبر ضمان لاستقرارها وأمنها وتقدّمها، حيث يشعر جميع أفراد المجتمع بأنّهم متساوون في المكانة، وأنّ التفاعل والفرص التي يحصلون عليها هي نتيجة عضويّتهم في جماعة وطنية وقدراتهم ومهاراتهم، وليست نتيجة لمكانة ما في القبيلة أو لمرتبة اجتماعية، ما يسهم في تشكيل شعور حقيقي بالانتماء إلى الوطن. فبناء الإنسان الحرّ الديمقراطي الذي يمتلك القدرة على المشاركة في الحياة السياسية مشاركة فاعلة وحيوية، لا يحدث مصادفةً، بل هو الإنسان الذي يتوجّب على التربية أن تقوم بإعداده وتحضيره إنسانياً، للمشاركة الحرّة في صنع المصير الاجتماعي للمجتمع الذي ينتمي إليه. ومن دون التربية الديمقراطية والتربية على المُواطَنَة يتحوّل المواطنون إلى رعايا وأفراد ورعاع لا يمتلكون مصيرهم السياسي وغير قادرين على المشاركة في الحياة الاجتماعية أو في الشأن العامّ (وطفة، علي أسعد، “التربية على المُواطَنَة في عالَم متغيّر، مجلّة الطفولة العربية، المجلّد السابع، العدد 26، 2011).

والمُواطَنَة بالمعنى الحديث تعني تنمية أُفق مشاركة الأشخاص والأفراد في الحياة المجتمعية والسياسية مشاركةً حرّة مسؤولة، وذلك عبر الصيغ الديمقراطية الحديثة للمُشاركة الحرّة من: انتخابات وتصويت وحقّ الترشيح. وتشمل هذه المُمارَسة الحرّة الحقّ في التظاهر وفي الاعتراض، وفي مُمارَسة حرّية القول والتعبير. كما أنّه يحقّ للمواطن، بصيغة مفهوم المُواطَنَة هذا، أن يُشارك في الجمعيات والمنتديات والمُمارسات السياسية، وأن يعبِّر عن رأيه وتطلّعاته في الشارع والمنزل ومكان العمل،بالأدوات التي يمتلك.

فالمُواطَنَة الحديثة تتمثّل في قدرة الفرد على وعي القيَم الديمقراطية والأخلاقية الأساسية التي تجعله أكثر قدرة على اتّخاذ خياراته الديمقراطية، وأكثر قدرة على الفعل في إطار إحساسه بالانتماء إلى كيان اجتماعي منظَّم ومحدَّد، والمشارَكة الفعّالة في مختلف المسؤوليّات العامّة للمجتمع، وفكرة المُشاركة في الحياة السياسية هي أساس الديمقراطية، والانطلاق من فكرة النظر للمواطنين كمُشاركين نشطين فى المجتمع بما يُسهم فى تحقيق الرخاء الاجتماعي (Matsuda, Noritada, “Can Universities Supply Citizenship Education? A Theoretical Insight”, Japanese Political Science Review 2, 2014.).

إنّ بناء الإنسان المواطن الصالح الذي تقع عليه أعباء التنمية وبناء الوطن يُعدّ من أهمّ الأهداف التي يجب أنْ يعمل على تحقيقها كلّ مجتمع؛ فلا بدّ من اضطّلاع المؤسّسات التربوية بدورها الصحيح، بطريقة خلاّقة تمكّنها من تحمّل مسؤوليّاتها، حيث يُضعِف غياب ثقافة المُواطَنَة الصالحة عاطفة الولاء والانتماء ، ما يجعل الأفراد يشعرون بحالة من الإحباط، ويثبط ذلك من عزيمتهم في النهوض بقدرات مجتمعهم، ويشيع بينهم الظواهر السلبية كالأنانية وتقديم المصلحة الشخصية والنزعات الخاصّة على المصلحة العامّة.

قد تتجاوز فكرةُ الإنصاف المفهومَ الضيّق للتنمية، القائم على أساس مظاهر توزيع الثروات والمداخيل في المجتمع، لتشتمل في مضمونها على عناصر أوسع، كالضوابط والروابط الإنسانية، من حقوق وحرّيات سياسية ومدنية، وكثير من المجالات والمَسارات التي يستطيع بها الفرد كمواطن الإسهام الفاعل في حياة الرعيّة من المجتمع وفي إطار دَور الدولة المسؤول كراعٍ لهذه التنمية. فقد ترتبط فكرة الإنصاف أساساً بالاستدامة لمختلف أنماط التنمية سواء البشرية منها أم المادّية والسياسية والتي تنصبّ محصّلتها لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية على حدّ سواء، من دون أن تكون هناك من تضحية بقدرات تلك الأجيال وفرصها.فنظرة إلى المستقبل بخصوص تعظيم دَور المُواطَنَة ومنحها أفقاً أوسع تتفتَّح لها أبواب الإبداع والتقدّم في ظلّ نُظم سياسية تسودها الحرّيات المدنية والمُشارَكة السياسية الفاعلة في الحياة العامّة من الناحية العملية لا الظاهرية، وكأُطر عامّة لتتشكّل مناهج التنمية المنشودة واستدامتها.

إنّ بناء مفهوم المُواطَنَة وتأصيله وعياً مرجعيّاً في عقل المواطن لتعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافياً وإنسانياً، أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المُعاصر. ولا ريب في ذلك لأنّ مفهوم المُواطَنَة يشكِّل واحداً من المفاهيم الأساسية للتقدّم الإنساني القائم على التفاعل الحرّ بين الإنسان والوطن، بين الإنسان وقيَم الحرّية والإخاء والتسامح. ويعوّل كثير من المفكّرين اليوم على أهمّية بناء هذا المفهوم وتأصيله، لتحرير الوعي من أثقال الانتماءات التقليدية الضيّقة التي تتمثّل يقيناً في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيّقة. فالتحوّلات الكبرى الضاغطة، التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، تعمل على تفكيك المنظومات الإيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المُعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهَيمنة والوجود.

*مدرّس أصول التربية- جامعة الإسكندريّة

افق

Print Friendly, PDF & Email

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي